وسط سباق محموم تخوضه طنجة لتعزيز موقعها في خارطة المدن العالمية، تبرز المراحيض العمومية كواحدة من الثغرات البسيطة ظاهريا، العميقة دلاليا.
فبين مشاريع بنى تحتية ضخمة تتوزع بين الميناء والمناطق الصناعية وخطوط النقل، لا تزال خدمات أساسية مثل قضاء الحاجة في فضاء لائق، خارج المعادلة.
وأعادت حادثة عرضية خلال تظاهرة رياضية فتح هذا الملف بصمت فاضح. شخص ينحرف عن المسار، يبحث عن زاوية مهملة، ويفعل ما لا ينبغي فعله في المجال العام.
الواقعة لم تُوثّق ولم تُناقَش، لكنها وقعت. ومن خلفها، تُطرح أسئلة لا تخص الرياضة ولا البروتوكول، بل تمس جوهر الفضاء العمومي في المدينة: أي معنى للتهيئة إذا كانت أبسط الوظائف الحياتية بلا جواب؟
وضمن هذا السياق، أطلقت شركة التنمية المحلية “طنجة موبيليتي” صفقة لتوريد وتركيب وتشغيل ثمانية مراحيض عمومية ذاتية التنظيف، بكلفة تصل إلى 15.5 مليون درهم.
وتتضمن الصفقة، المُعلنة تحت رقم 26/TM/2025، تجهيزات متقدمة وربطا بشبكات الماء والكهرباء، مع التزام بتهيئة المرافق لتناسب ذوي الاحتياجات الخاصة.
المواقع مختارة بعناية، والمعايير واضحة. لكن التجربة، كما تعلّم ساكنة طنجة، لا تُقاس بالتصاميم والمواصفات، بل بمدى صمود المرفق بعد أيام من تشغيله. فقد انتهت تجارب سابقة إلى وحدات مغلقة، دون صيانة، دون تتبع، ودون مسؤولية واضحة.
غير ان ما يحدث لا يخص فقط مراحيض تُركب وتُهمل، بل يعكس نمطا في تدبير الشأن الحضري، حيث تُنجز المشاريع غالبا كأجوبة ظرفية، دون إدماجها في منظومة دائمة للحكامة والصيانة. والنتيجة: هياكل مهجورة، وفضاءات فاقدة للوظيفة، ومواطن يواجه حاجته بحلول مهينة: جدار خلفي، زاوية منعزلة، أو صبر قاس إلى حين العودة إلى البيت.
وفي الأوقات الاستثنائية، تُركب حاويات مؤقتة بالشراكة مع الشركات أو بمناسبة فعاليات دولية. لكنها تظل حلولا مناسِبة للتظاهرات، لا للمدينة. إذ إن الطابع الدائم مفقود، والبعد المؤسسي غائب، والتخطيط، في هذا الجانب، لم يرقَ بعد إلى مستوى الطموحات المُعلنة.
في الخلفية، يتكرّر التناقض الصارخ: بنية فوقية تُبهر من يمر، وخدمات تحتية تُخجل من يقترب. لكن هذه المفارقة لم تمر دون ملاحظة في تجارب سابقة.
ففي سنة 2012، حين تقدمت طنجة بملف احتضان المعرض الدولي “إكسبو”، ورد ضمن ملاحظات لجنة التقييم غياب المراحيض العمومية بمحيط المواقع المقترحة. قيل إن الملاحظة لم تُنشر، لكنها طُرحت، وأثّرت.
واليوم، وبينما تتهيأ المدينة لاحتضان مباريات مونديال 2030، يُطرح السؤال من جديد: كيف تستقبل مدينة آلاف الزوار وهي لا توفر لهم الحق في قضاء حاجتهم بكرامة؟ كيف تُدار الفضاءات العامة دون أن تُدرج هذه الوظيفة الأساسية في دفتر شروط المدينة؟
وتُظهر التجارب الدولية أن المرحاض العمومي ليس مرفقاً تقنياً فحسب، بل مؤشر على حضارة المدينة. يُقاس به احترام الفضاء العام، ويُعتمد في تصنيفات المدن الذكية والصالحة للعيش. وليس المطلب في العدد فقط، بل في شروط الاستعمال: النظافة، الأمان، المجانية، وساعات العمل.
وقد تمثل صفقة “طنجة موبيليتي” فرصة حقيقية لتغيير النمط، شرط أن تُنفذ برؤية تتجاوز الإنجاز الهندسي نحو إدماج الخدمة في النسيج الحي للمدينة، وهو الأمر الذي يتطلب يقظة مؤسساتية، وتتبّعا مستمرا، وتواصلاً مع المواطن.
طنجة لا تنقصها الموارد ولا الطموحات. ما ينقصها، كما يلوح في هذا الملف، هو ترتيب الأولويات. أن تخرج من منطق الصورة الكبرى إلى هندسة التفاصيل التي تلامس الإنسان مباشرة، والتي تُحفر في ذاكرته أكثر من أي مجسم أو منصة عرض.
ولأن التموقع العالمي، في نهاية المطاف، لا يُقاس فقط بعلو البنايات أو امتداد الطرق، بل يبدأ من الأرض… ومن مراحيض تُفتح لا أن تُغلق.