ليس في الأمر مجرد تنقل عادي لمسؤول جماعي يمثل مدينة مغربية كبرى، بل في العمق مسار يتقاطع فيه المحلي مع الجهوي، وينفتح على الإقليمي والدولي بوعي استراتيجي.
منير ليموري، رئيس جماعة طنجة، يواكب مهامه في تدبير الشأن المحلي ضمن المجال الترابي، بخطوات موازية يمكن وصفها بـ”الوظيفة التمثيلية الممتدة”، تلك التي تجعل من رئيس مسؤول جماعي فاعلا في الدبلوماسية الموازية، وساعيا إلى تعزيز الشراكات اللامركزية على أوسع نطاق.
وحين حل بالعاصمة السعودية الرياض منتصف ماي 2025، لم يكن مجرد مشارك في منتدى دولي، بل كان ذلك المشهد أقرب إلى لحظة تتويج لمسار دبلوماسي ترابي أخذ في التشكل على مدى سنوات، ثم وجد له منصة إقليمية كبيرة للتعبير عن نفسه.
في قاعة تجمع بين دفء الخليج وصرامة النقاشات الأوروبية، قدم ليموري عرضا حول مدينة طنجة، مستعرضا ملامح تطورها ومساهمتها ضمن الديناميات الحضرية الحالية، من خلال منظور يبرز دور العواصم الحضرية في التفاعل مع التحولات المستقبلية.
منتدى “حوار المدن العربية الأوروبية” لم يكن مجرد مناسبة عابرة، بل كان محطة لصياغة سرديات جديدة حول موقع المدن في مواجهة التغيرات المناخية، التفاوتات المجالية، وضغط النمو الديمغرافي.
وتماشيا مع شعار المنتدى “شراكات المدن من أجل مستقبل أفضل”، طرح ليموري تصورا حول إمكانية بناء تعاون حضري عابر للحدود، يرتكز على آليات التبادل والتقاطع والابتكار.
وفي مداخلته، قدم مقاربة ترتبط بتجارب مدينة طنجة، من حيث البنيات التحتية، وإعادة هيكلة الإنارة، وتدبير مياه الأمطار، وترميم المدينة القديمة، وتوسيع المساحات الخضراء، ضمن أحياء تعرف كثافة سكانية مرتفعة.
وعلى هامش المنتدى، أجرى ليموري لقاءات مع عدد من ممثلي المدن مثل مالقا، وجدة، وأليكانتي، وتيرانا، حيث طرحت إمكانية بناء تعاون مشترك، من خلال مذكرات تفاهم ومبادرات ثقافية وتبادل الخبرات بين الجماعات.
في الرياض، كانت لغة الحوار متعددة، لكن ليموري اختار لغة ثالثة، تجمع بين وضوح الطرح وعفوية القرب. فتحدث عن طنجة كمدينة تعيش الزمن المغربي بكل تناقضاته، لكنها تفتح نوافذها على أوروبا، وتستلهم من الجنوب دينامية إفريقية جديدة.
كما استعرض عددا من التحديات المطروحة، إلى جانب مقترحات لحلول تستند إلى مفاهيم الذكاء الترابي، مع التركيز على أدوار المدن في تحسين شروط العيش وبناء التماسك المحلي.
وغادر ليموري قاعة المؤتمر وقد شكل حضوره مساهمة في إبراز مدينة طنجة ضمن النقاشات المتعلقة بالتعاون اللامركزي، مستندا في ذلك إلى تجربة متراكمة ورؤية منفتحة على المستقبل.
أوروبا ليست بعيدة
إسبانيا، بلجيكا، جبل طارق… وجهات لم تعد تنتمي فقط إلى أجندة العبور البحري أو الجذب السياحي، بل تحولت إلى فضاءات للشراكة المؤسساتية، واللقاء بين الجماعات الترابية. وهي عناصر جعلت منير ليموري، الذي راكم تجربة تنظيمية ومهنية داخل دواليب الاقتصاد المحلي، ينقل أجندة طنجة إلى قلب النقاشات الأوروبية، يمد الجسور مع بلديات الجنوب الإسباني، ويعيد تنشيط قنوات التوأمة مع مدن لها وزنها في فضاء البحر الأبيض المتوسط.
وفي بروكسيل، حيث التقى مسؤولين عن الحكامة الحضرية، لم يكن يعرض ملفا تقنيا فقط، بل كان يطرح رؤية ترابية تستحضر الإصلاحات المغربية، وتبرز مؤهلات طنجة كنقطة توازن بين إفريقيا وأوروبا.
وفي جبل طارق، لم تكن الزيارة مجرد حركة دبلوماسية، بل محطة تذكير بعمق العلاقات التاريخية التي تربط طنجة بفضاءات السيادة البريطانية، ونافذة لتعزيز التعاون الثنائي فيما يخص النقل الحضري، والسياحة، والاقتصاد الأزرق.
وتندرج هذه التحركات في إطار منطق التعاون الدولي اللامركزي، الذي يعد إحدى الركائز الجديدة لتقوية موقع الجماعات المغربية في النسيج الدولي، خارج قنوات الدولة الرسمية، وداخل أطر الشراكة المباشرة بين المدن.
بوصلة جنوب–جنوب
قليلة هي الشخصيات المنتخبة التي جمعت بين رئاسة مجلس ترابي حضري، ورئاسة الجمعية المغربية لرؤساء مجالس الجماعات، ونائب رئاسة منظمة المدن الإفريقية، ثم تقلدت تمثيلية دبلوماسية فخرية بقيمة قنصل شرفي لجمهورية الشيلي. لكن منير ليموري فعله دون صخب.
في القارة السمراء، شارك الليموري في مؤتمرات للتنمية الحضرية، وواكب مشاريع للتوأمة بين جماعات إفريقية، كما دعم التعاون جنوب–جنوب الذي يندرج ضمن اختيارات السياسة الخارجية المغربية.
أما في أمريكا اللاتينية، فقد استطاع أن يفتح قنوات التواصل مع دول كالتشيلي والبرازيل، في مبادرات مهنية تمخضت عن اعتراف رفيع تمثل في تعيينه قنصلا شرفيا لتشيلي بجهة طنجة–تطوان–الحسيمة. خطوة لم تأت صدفة، بل جاءت تتويجا لمسار تراكمي في نسج العلاقات الدولية، وخلق روابط بين طنجة وعواصم جديدة، كانت بعيدة عن الخريطة الدبلوماسية للجماعات المغربية.
رؤية ما بعد العمدة
فالمسألة إذن غير مرتبطة بكثرة السفرات، ولا بعدد الصور الرسمية، بل بنهج إدماجي يجعل من العمدة فاعلا في مجال “الحكامة الممتدة”، حيث يتجاوز دوره تدبير النظافة وتعبيد الطرق، ليتحول إلى عنصر محوري في نسج الشراكات، جذب التمويلات، وتبادل الممارسات الفضلى.
من هذا المنظور، لا تنحصر مساهمات ليموري في الشأن المحلي المباشر، بل تمتد إلى تمثيل جماعة طنجة في المحافل الدولية، ضمن سياق تتسع فيه أدوار المدن وتتعمق فيه رهانات التعاون والشراكة العابرة للحدود.
وهو حين يختار الحضور في الفضاءات المتعددة، فليس ذلك خروجا من مسؤولياته، بل توسيعا لها، وفق القراءة السياسية والدبلوماسية لأدوار رؤساء وعمداء الجماعات عبر العالم.
وفي المشهد العام، تتمايز الأدوار وتختلط النيات. لكن الواضح أن ليموري، بخلفيته الاقتصادية، وتجربته التنظيمية، واستيعابه لتحولات منطق التدبير، يسعى إلى أن يجعل من طنجة ليس فقط قطبا اقتصاديا صاعدا، بل أيضا مركز إشعاع حضري ضمن خرائط التعاون الدولي، وشريكا موثوقا داخل شبكات المدن الذكية، المستدامة، والمتجددة.