في أحد مشاهد التحوّل الحضري الأكثر رمزية بمدينة طنجة، بدت ساحة “البلاصا الجديدة” شبه خالية بعد تفكيك العشرات من المحلات العشوائية، التي ظلت لعقود تؤثث هذا الفضاء الشعبي الواقع عند تقاطع شارعي فاس وهولندا.
وعلى بعد.مسافة قريبة، شرعت الجرافات قبل أيام، في إزالة الركام داخل فندق “الشجرة”، إيذانا بانطلاق أشغال ترميم واحدة من أعرق البنايات المندمجة في السوق التقليدي.
دينامية جديدة تجسد انطلاق ورش تأهيلي غير مسبوق، يستهدف إصلاح اختلالات مزمنة راكمتها عقود من التوسع غير المنظم، وسط أمل بأن تنجح المدينة في تحويل فضاءاتها السوسبواقتصادية إلى بنيات حديثة منسجمة مع هويتها.
وجرت عملية ترحيل تجار “البلاصا الجديدة” نحو السوق البديل بمنطقة درادب، التي طالما اعتُبرت اختباراً ميدانيا لإرادة الإصلاح، دون صدامات، في ظل توفّر محلات مؤقتة وغياب احتجاجات جماعية. وهو ما فسح المجال لانطلاق مشروع المركب التجاري الجديد الذي صادقت عليه جماعة طنجة خلال دورة مارس 2025، والذي يُرتقب أن يضم 200 محلا تجاريا، و22 وحدة لبيع الخضر والفواكه، و40 وحدة للأسماك، إلى جانب مرافق عمومية تشمل مطاعم، قاعة للصلاة، ومرآب تحت أرضي بسعة 441 مركبة.
وقال أشرف أخريف، عضو المكتب التنفيذي لرابطة تجار السوق، إن “التفاعل مع مشروع الترحيل كان إيجابيا، لأن الغالبية تدرك أن فضاء البلاصا الجديدة لم يعد صالحا تجاريا ولا إنسانيا، لكن التخوف اليوم يتعلق بمرحلة العودة”.
وأضاف أخريف في تصريح لموقع ابشمال نيوز: “نريد التزامات واضحة تضمن رجوعنا إلى نفس المواقع، وبنفس الشروط التي تحفظ الكرامة والاستقرار”.
بالتوازي، انطلقت الأشغال بفندق “الشجرة”، وهو عبارة عن فضاء تجاري مندمج داخل نسيج السوق، ويضم محلات لبيع الخردة والملابس المستعملة وايضا المواد الغذائية وكذا محلات للحرفيين.
ويشمل المشروع الذي تتجاوز كلفته 17.5 مليون درهم ترميم الواجهات، تنظيم المرافق الداخلية، وتجديد شبكة الصرف والتجهيزات الأساسية.
وتؤكد المعطيات الرسمية أن مدة الأشغال تمتد لعام كامل، في إطار جدولة زمنية تراعي استمرار الحركة التجارية بالمحيط.
واعتبر عمدة مدينة طنجة منير ليموري، أن هذه المشاريع تشكل “منعطفا حاسما في مسار تحديث الفضاءات السوسيواقتصادية”.
وأكد ليموري في تصريحات صحفية، أن “تحديات التأهيل تفرض شراكات واسعة ومنهجية متناسقة بين جميع المتدخلين، بما فيها الجماعة، المصالح المركزية، الفاعلين المهنيين، ومؤسسات التمويل العمومي”.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، إلا أن الصورة لا تخلو من التفاوت. ففي الوقت الذي تشهد فيه “البلاصا الجديدة” و”فندق الشجرة” دينامية ميدانية واضحة، لا يزال مشروع إعادة تأهيل سوق كسبراطا، الذي يُعد من أكبر الأسواق بمدينة طنجة من حيث الكثافة والنشاط، يراوح مكانه. إذ صودق عليه سنة 2023، دون أن يتم إلى حد الساعة التوصل لصيغة توافقية مع التجار والحرفيين بشأن تفاصيل الترحيل أو تدبير المرحلة الانتقالية.
وبحسب مصادر مهنية، فإن الإشكال لا يتعلق برفض المشروع، بل بغياب الحوار الحقيقي، مشيرة إلى أن “هناك وعودا كثيرة لكن لا شيء ملموس على مستوى الضمانات أو المساطر، كما أن الحديث عن مركب بديل لا يزال في طور التصورات النظرية”.
المستجد الوحيد في هذا السياق، بحسب مصادر جماعية، هو إعلان نوايا يهم إعادة تفعيل مركب ابن بطوطة التجاري بشكل مؤقت لاستيعاب بعض الأنشطة، غير أن هذا المقترح لا يزال يواجه عقبات تنظيمية وتوجسات مهنية من إمكانية ترحيل غير محسوب العواقب.
وبالرجوع إلى الإطار المؤسساتي، تعتمد تمويلات هذه المشاريع على مقاربة تشاركية، تنخرط فيها جماعة طنجة، المديرية العامة للجماعات الترابية، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ووكالات تمويل عمومية أخرى، مع انفتاح على مساهمات الفاعلين المهنيين، خاصة في مراحل التجهيز والاستغلال.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن كلفة إعادة تنظيم الأسواق الكبرى بالمدينة قد تفوق 100 مليون درهم خلال السنوات الثلاث المقبلة، إذا ما تم تعميم نفس النموذج المعتمد حالياً على باقي الفضاءات، بما في ذلك سوق بئر الشفا، سوق مسنانة، وسوق بير الشعيري.
في المحصلة، تبدو طنجة أمام فرصة فعلية لتحويل جزء من أعطابها المرفقية إلى مكتسبات عمرانية، شريطة أن لا تنحصر الرؤية في الجوانب التقنية، وأن يُستحضر البعد الاجتماعي في كل مرحلة من مراحل التنفيذ. فنجاح “البلاصا الجديدة” قد يشكل بداية لنموذج تأهيلي فعّال، لكنه لن يُكتب له الاستمرار ما لم تُستكمل باقي الحلقات بالوتيرة ذاتها والوضوح ذاته في الالتزامات.