الشمال نيوز من طنجة
تتحول العطلة الصيفية التي يقضيها الملك محمد السادس بمدينة المضيق الى لحظة ذات دلالات تتجاوز بعدها الخاص، لتغدو حدثا سياديا يعكس عمق العلاقة التي نسجتها المؤسسة الملكية مع شمال المملكة، ويعيد في كل موسم توجيه الانتباه نحو موقع هذه الجهة في معادلة التنمية واعادة التوازن الترابي.
فمنذ مطلع الالفية، اصبحت الاقامة الملكية في الشمال جزءا من تقاليد صيفية راسخة، تقابلها المدن الساحلية بحركية متجددة لا تختزل في الشكل، بل تنسحب على مستويات التدبير والاستثمار والاشارات السياسية غير المعلنة.
مساء الاثنين، حل الملك محمد السادس، بمدينة تطوان قادما من الرباط، في مستهل اقامة خاصة دأب على قضائها في إقامته المطلة على خليج المضيق.
لكن وصول عاهل البلاد الى المنطقة لا يقرأ لدى المتابعين في سياقه البروتوكولي فقط، بل يفكك ضمن سلسلة من التفاعلات التي تطال الاداء الترابي والبنية السياحية ودينامية القطاع الخاص، بما يشبه لحظة انكشاف شامل للمدينة أمام عين السيادة، بكل ما يفرضه ذلك من تسريع للمبادرات وتركيز غير مباشر للمحاسبة العمومية.
وعلى المستوى الميداني، يطلق هذا الحدث ما يمكن وصفه بتعبئة صامتة تشهدها المصالح الجماعية والمؤسسات المحلية، حيث تستعجل اشغال التهيئة وتطلق حملات تنظيف واسعة النطاق، وتفعل مساطر استثنائية لتجاوز اعطاب البيروقراطية التي تكون عادة عائقا امام المشاريع الحضرية.
وتدخل الشوارع الرئيسية والكورنيشات ونقاط الانارة والاسواق جميعها في منطق “التجميل السيادي”، وان كان دون اعلان رسمي.
هذا السلوك المؤسساتي لا ينبع فقط من احترام رمزية الحدث، بل يرتبط ايضا بما اصبحت تمثله العطلة الملكية من محفز عملي على الانجاز.
ففي مناطق تعاني في كثير من الاحيان من ضعف في دورات المتابعة والمساءلة، يوفر هذا التواجد الملكي فرصة فريدة لدفع الملفات العالقة نحو التنفيذ، وهو ما يعكسه ميدانيا تسارع الاشغال في محاور عمرانية وخدماتية بمجرد تداول اخبار قرب وصول الموكب الملكي.
لكن الاثر لا يقتصر على الفضاء العام. فالعطلة الملكية تتزامن منذ سنوات مع ذروة الموسم السياحي، وتشكل بالنسبة لمهنيي القطاع محطة ارتكاز يراهنون عليها سنويا.
ووفق معطيات رسمية صادرة عن مندوبية السياحة بجهة طنجة تطوان الحسيمة، شهدت عمالة المضيق الفنيدق خلال صيف 2024 ارتفاعا بنسبة 5.2 في المئة في عدد الوافدين، رغم تأخر انطلاق الموسم جراء تمديد السنة الدراسية وتزامن عيد الاضحى.
كما ارتفع عدد ليالي المبيت بنسبة 6.8 في المئة خلال الفترة التي صادفت تواجد الملك بالمنطقة، وهي نسب تعزز فرضية الارتباط الوثيق بين الظرف الملكي والحركية السياحية.
في المقابل، يشير المهنيون الى ان القطاع غير المصنف هو الاكثر استفادة من هذه الفترة، حيث تنتعش انشطة كراء الشقق وتعرف الاسعار ارتفاعا ملحوظا، كما يرتفع الطلب على خدمات النقل والمطاعم.
ويؤكد احد مستثمري السياحة الداخلية ان “الملك لا يروج للمنطقة ببلاغ او اعلان، بل بحضوره الفعلي. كلما زارها ارتفعت الثقة فيها، وازدادت الحجوزات، وتضاعفت المداخيل”.
وتأخذ هذه الثقة طابعا ملموسا لدى السكان، نظرا لما يعرف عن الملك من تحركات خارج القيود الرسمية، حيث جرت العادة ان يتجول بسيارته الخاصة، او يزور اماكن عامة بشكل غير معلن، ويلتقي بالمواطنين في لحظات تلقائية.
وتعيد هذه الممارسات غير المحاطة بالبروتوكول تشكيل العلاقة بين المواطن والملك في فضاء غير مؤسساتي، وتكرس صورة السيادة القريبة الحاضرة ميدانيا، لا من خلال الخطب فقط، بل من خلال الحركة والمشاهدة والملامسة المباشرة.
وعلى هذا الاساس، يغدو البعد الرمزي للاقامة الملكية في الشمال جزءا من سياسة تموقع ترابي للمؤسسة الملكية. فهي لا تقتصر على المركز، بل تواصل منذ سنوات توسيع نطاق حضورها لتشمل جهات ومجالات غالبا ما كانت هامشية في تمثلات الدولة.
من هنا، يفهم بعض المحللين هذه الاقامة الصيفية بوصفها تجسيدا لنمط خاص في توزيع السيادة على المجال، يمنح للجهات غير المركزية وزنا معنويا لا يوازيه في كثير من الاحيان حجم الميزانيات المخصصة او السياسات العمومية المعتمدة.
ورغم التحولات التي عرفتها المنطقة بفعل هذا الحضور الرمزي، لا تزال مؤشرات البنية السياحية الرسمية محدودة. فمدينة تطوان لا تتوفر سوى على 1900 سرير في وحدات الايواء المصنفة، وتسجل الجهة ككل نسبة 0.5 في المئة فقط من مجموع ليالي المبيت المسجلة وطنيا، حسب الارقام الرسمية.
ويسلط هذا التناقض بين الكثافة البشرية التي تستقبلها المنطقة كل صيف، والضعف العددي في البنية المهيكلة، الضوء على الاشكالات التي لم تنجح بعد السياسات الترابية في تجاوزها.
وبينما تراكم المنطقة كل عام نجاحا ظرفيا في ادارة موسمها السياحي بفضل الرافعة الملكية، لا تزال تفتقر الى رؤية تنموية دائمة تحول اللحظة الملكية الى استراتيجية مستمرة.
فالاعتماد على وجود الملك كشرط لتحسين الاداء يعد في حد ذاته مؤشرا على غياب ادوات تدبير فعالة وقادرة على الاستمرارية دون ضغط رمزي.
وفي المحصلة، تطرح العطلة الملكية في الشمال اسئلة تتجاوز طقوس الصيف ومؤشرات الفنادق، لتلامس صلب العلاقة بين السيادة والمجال، بين الرمزية السياسية والفعالية الميدانية.
هي لحظة يسلط فيها الضوء على مدينة، لكن دون ان تضمن لها الاستدامة، وتحرك فيها مؤسسات، لكن دون ان تنضج بالضرورة نموذجا قابلا للتكرار.
ومن هذا المنظور، فان اكبر مكسب للمنطقة لن يكون فقط في استقبال الملك، بل في نجاحها في بناء ديناميتها الخاصة خارج الموسم، حين تعود الحياة الى وتيرتها العادية، وتغيب الاضواء.