بصمت، وبدون ضجيج سياسي، يجري نقل تدريجي لمجالات من الوظيفة التدبيرية للجماعات الترابية نحو شركات التنمية المحلية والجهوية، في مسار يبدو تقنيا من حيث الشكل، لكنه يُحدث تحوّلا عميقا في موازين السلطة داخل المجال الترابي.
في مدينة طنجة، تتولى اليوم شركات مثل “طنجة موبيليتي” و”طنجة ثقافة” و”طنجة الجهة للتهيئة” الإشراف المباشر على مشاريع استراتيجية تشمل النقل، التهيئة، وتدبير المرافق الثقافية، بينما تنحصر مساهمة المجالس المنتخبة في المصادقة على اتفاقيات تُعرض عليها في مراحل متقدمة، بعد أن جرى إعداد معالمها التقنية ضمن نطاق التنسيق الإداري الذي تشرف عليه ولاية الجهة، بصفتها ممثلة للسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية.
وتجاوزت شركة “طنجة موبيليتي”، التي أُحدثت لتدبير النقل العمومي الحضري، اختصاصها الأصلي لتصبح طرفا مباشرا في تثنية الطرق، تهيئة المحاور الاستراتيجية، وإنجاز دراسات عمرانية، دون أن تُصاغ هذه المهام ضمن برنامج جماعي أو رؤية محلية مصادق عليها داخل المجلس.
كما تسلّمت شركة “طنجة ثقافة”، المحدثة في يوليوز 2024، مهمة تدبير واستغلال مجموعة من البنيات الثقافية الكبرى، في مقدمتها حلبة الثيران وسوق الجملة القديم، بموجب شراكة متعددة الأطراف تضع الجماعة في موقع المساهم الأكبر (70%)، دون آلية مؤسساتية واضحة تضمن إشرافا سياسيا فعليا على خيارات التدبير.
وفي يناير 2025، صادق مجلس جهة طنجة-تطوان-الحسيمة على إحداث شركة “طنجة الجهة للتهيئة ش.م.”، في إطار الصيغة القانونية لشركات التنمية الجهوية (SDR)، لتتولى تنفيذ مشاريع التصميم الجهوي لإعداد التراب وبرنامج التنمية الجهوية، بتمويل مشترك مع وزارة الداخلية، وبتفويض واسع يُبعد الجماعات الإقليمية والمحلية عن دوائر التوجيه.
هذا الامتداد في صلاحيات الشركات لا يوازيه أي تعزيز لدور المجالس، بل يتم على حسابها. إذ تتحوّل من هيئات مقرِّرة إلى مؤسسات تصادق على اتفاقيات سبق تحديد مضامينها خارج فضاء التداول الجماعي.
ويُقدَّم هذا التحوّل بوصفه ضرورة لتجاوز الإكراهات المرتبطة بضعف الموارد البشرية، بطء المساطر، وتعقيد الشروط الإدارية. لكنه في العمق، يُنتج واقعا جديدا يُعاد فيه توزيع الوظائف التنفيذية لصالح فاعلين غير خاضعين للمساءلة الانتخابية، ولا تستند أولوياتهم إلى برامج محلية مصادق عليها شعبيا.
وقد أثار مشروع القانون 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات نقاشا حادا داخل البرلمان، حيث حذّر عدد من النواب من احتمال أن تتحوّل هذه الشركات إلى أداة لتفريغ الجماعات من اختصاصاتها الأصلية.
فيما دعا المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في رأي مؤسساتي صدر نهاية 2023، إلى مراجعة العلاقة بين الدولة والجماعات، وتفادي تحويل هذه الشركات إلى سلط تنفيذية موازية.
الرأي ذاته أشار بوضوح إلى أن اتساع صلاحيات الفاعلين الوسيطين – ومن ضمنهم شركات التنمية – يجب أن يتم ضمن “إطار تعاقدي مضبوط، خاضع للمساءلة المتعددة المستويات”، محذرا من أن الانزلاق نحو نموذج تنفيذي محض، تتحكم فيه السلطة المفوضة وتغيب فيه آليات الرقابة التمثيلية، من شأنه أن يُقوّض أهداف الجهوية المتقدمة.
ورغم أن الجماعات تحتفظ من الناحية القانونية بحق التصويت داخل الجمعيات العامة لهذه الشركات، إلا أن السلطة الفعلية للتوجيه تبقى محدودة، بحكم أن الهندسة المالية والتنظيمية لهذه الكيانات تُصاغ مسبقا بتنسيق مع سلطات الوصاية، وتُحاط بمساطر معقدة تجعل تدخل المنتخبين في التفاصيل أقرب إلى الشكل منه إلى التأثير.
وفي بعض الحالات، لا تتوصل الجماعات بدفاتر التحملات أو عقود التدبير إلا بعد أن تُحسم خطوطها الكبرى، إما في إطار الاجتماعات الثنائية بين المديرين العامين ومصالح الولاية، أو ضمن اتفاقيات شراكة تتولى السلطات الترابية تهييئها، ثم تُعرض على المجالس للمصادقة ضمن آجال محدودة لا تسمح بفتح نقاش فعلي.
هذا المسار لا يُضعف فقط القدرة التدبيرية للجماعات، بل يُغيّب أيضاً الرقابة المجتمعية التي يُفترض أن تمارسها الساكنة عبر ممثليها المنتخبين. وبذلك، يُفرَّغ المبدأ الدستوري للتدبير الحر من محتواه، ويُستبدل تدريجيا بمنطق “النجاعة المفروضة”، التي لا تخضع لا للتفاوض السياسي، ولا للرقابة المواطِنة.
وفي ظل هذا الواقع، يتعاظم التخوف من أن تتحوّل شركات التنمية إلى حل دائم لاحتواء عجز الجماعات، عوض أن تكون آلية مكمّلة داخل نموذج لامركزي متوازن. ما يُنذر ببناء هندسة ترابية هجينة، تتحكم فيها الإدارة، وتتحمّل فيها الجماعات مسؤولية قرارات لم تُشارك في صياغتها.