في مشهد عمراني لا يخلو من الحيوية، تستمر مدينة طنجة في تعزيز زخمها العقاري كجزء من دينامية أوسع تستبق تنظيم المملكة لكأس العالم 2030. مشاريع سكنية في مختلف الأحياء، أوراش مفتوحة على امتداد الشريط الحضري، وعروض إشهارية تتنافس على جذب المشترين.
غير أن هذه الدينامية لا تعني بالضرورة أن مدينة البوغاز توفّر السكن لمن هم في أمسّ الحاجة إليه. فالمفارقة بين كثافة العرض وصعوبة الولوج ما تزال تطرح نفسها بإلحاح، خاصة وسط الطبقات الشابة والمحدودة الدخل.
في يناير 2024، أطلقت الحكومة برنامجا جديدا للدعم المباشر للسكن، يستهدف الأسر التي لا تملك سكنا رئيسيا، بمنح مالية تتراوح بين 70 ألف و100 ألف درهم، بناء على سعر الشقة موضوع الشراء.
ويشترط هذا البرنامج أن لا يتجاوز سعر الشقة 300 ألف درهم للاستفادة من الدعم الكامل (100 ألف درهم)، في حين يُمنح دعم جزئي بقيمة 70 ألف درهم للشقق التي يصل ثمنها إلى 700 ألف درهم.
وحظي هذا التحول في مقاربة الدعم – من الامتيازات الموجهة للمنعشين العقاريين إلى دعم مباشر للمشترين – في البداية بترحيب واسع، لكونه يرتكز على منطق استهداف مباشر للطلب عوض العرض.
غير أن واقع السوق في عدد من المدن الكبرى، وعلى رأسها طنجة، سرعان ما كشف عن إشكال عميق: شبه انعدام للعرض العقاري الذي يطابق معايير الدعم الكامل.
وحسب معطيات من منعشين عقاريين، فإن السوق الطنجاوية لا تكاد تتوفر، منذ مطلع 2025، على شقق تقل عن 300 ألف درهم، وهو ما يعني فعليا أن أغلب طالبي السكن لا يستفيدون من الدعم الأقصى. بل إن معظم المشاريع المعروضة تنطلق أسعارها من 350 ألف درهم في الضواحي، وتصل إلى ما يفوق مليون درهم في المناطق القريبة من الشريط الساحلي أو الأحياء ذات الجاذبية العالية كمالاباطا.
العرض السكني منحاز طبقيا
وما يثير القلق بشكل أكبر هو تركّز المشاريع الجديدة في شريحة السكن المتوسط وما فوقه، وهو ما لا يعكس التكوين الفعلي للطلب المحلي.
فعدد مهم من سكان طنجة – خاصة فئة الموظفين الصغار، والعمال الصناعيين، والشباب المقبلين على الزواج – يعجزون عن تحمّل تكاليف التمويل البنكي المرتبطة بشقق يتجاوز سعرها 350 ألف درهم. وهو ما يعني أن فئات عريضة تجد نفسها خارج المنظومة، في غياب مشاريع سكنية موجهة للفئات الهشة أو المتوسطة الدنيا.
وساهمت الامتيازات التي كانت ممنوحة سابقا للسكن الاقتصادي، والتي كانت تفرض ثمنا محددا لا يتجاوز 250 ألف درهم، وإعفاءات ضريبية للمنعشين، خلال فترات سابقة في توفير عروض ملموسة للفئات ذات الدخل المحدود، خاصة في أحياء مثل بمقاطعتي بني مكادة أو مغوغة. أما اليوم، فغياب محفزات مماثلة، وانسحاب عدد من الفاعلين من هذا النمط، أفرز فراغا واضحا في هذه الفئة من السكن.
ويكشف هذا الواقع عن مفارقة واضحة: الدولة توفر دعما مباشرا، لكن السوق لا يوفّر العرض المطلوب. والأسوأ أن هذا النقص لا يقابله أي مجهود لتوجيه الاستثمار أو تقنين الأسعار، مما يترك المبادرة بالكامل لآليات السوق، وللمنطق الربحي الصرف.
وفي تأكيد إضافي على هذه المفارقة، كشفت بيانات رسمية صادرة عن وزارة إعداد التراب الوطني والإسكان، أن جهة طنجة-تطوان-الحسيمة سجّلت إلى حدود 23 ماي 2024، حوالي 2,948 طلباً فقط للاستفادة من برنامج دعم السكن، أي أقل من 4% من مجموع الطلبات المقدمة على المستوى الوطني، التي تجاوزت 73,700 طلب. وهو ترتيب متأخر بالنظر إلى الوزن السكاني والاقتصادي للجهة، ويعكس – بشكل مباشر – غياب عرض سكني حقيقي يتماشى مع شروط الاستفادة.
مدينة بدون قاعدة اجتماعية في 2030؟
وتتجه طنجة بخطى متسارعة لتعزيز بنياتها التحتية وتنميتها الحضرية، في أفق مشاركتها في تنظيم تظاهرات كبرى مثل مونديال 2030.
ويُنتظر أن تستقبل المدينة، في هذا السياق، استثمارات ضخمة في مجالات النقل، السياحة، والتهيئة العمرانية. غير أن غياب تصور واضح للسكن الموجه للفئات الاجتماعية الواسعة، قد يجعل من هذه الدينامية العمرانية ورشة بدون قاعدة بشرية مستقرة.
فالمدينة التي كانت لعقود وجهة مفضلة لليد العاملة القادمة من مختلف جهات المغرب، قد تتحول تدريجيا إلى مجال مغلق لا يتيح السكن إلا للقادرين على مجاراة الأسعار أو المستثمرين الباحثين عن العقار كأصل مالي.
وما يكرّس هذا التوجّه، هو التحول الملحوظ في تركيبة المشاريع الجديدة، التي باتت تركز على الشقق الفاخرة، أو الإقامات المسوّرة، أو المشاريع ذات الطابع السياحي، دون أن يقابلها أي التزام حقيقي بإدماج برامج موجهة للأسر الشغيلة أو الشابة.
إن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، في ظل هذا الوضع، لا يتعلق فقط بالتمويل أو العرض، بل بمستقبل المدينة كفضاء متوازن اجتماعياً. فهل يمكن لطنجة أن تستمر في النمو دون أن تضمن لمواطنيها الحق في السكن؟ وهل من الممكن إنجاح مشاريع كبرى في ظل هشاشة قاعدتها الاجتماعية ومحدودية قدرتها على الاحتفاظ بسكانها الأصليين في قلب النسيج الحضري؟